شبهة وجود الشر (وتسمى معضلة أبيقور) تتلخص في أن الخالق لا يمكن أن يتصف بصفتي الرحمة والقدرة معا، لأن وجود الشر يمنع إحدى الصفتين؛ فهو إما أنه قدير ويرضى بوقوع الشر فتنتفي عنه صفة الرحمة وإما أنه رحيم لا يرضى بوقوع الشر فتنتفي عنه صفة القدرة على منع وقوع ذلك الشر
علاقة الشبهة بوجود الخالق
هذه الشبهة من الشبهات التي يثيرها الملاحدة رغم أنه لا علاقة مباشرة لها بالإلحاد الذي يقوم على إنكار وجود الخالق، فإذا أثبتنا وجود الخالق بالأدلة العقلية والعلمية والفطرية، فكيف يمكن للملحد أن ينفي هذه الأدلة لمجرد شبهة تدور حول صفات الخالق نفسه؟ بل إن الشبهة تقوم أصلا على افتراض وجود الخالق، إذ لا يمكن مناقشة الصفات دون افتراض وجود الذات الموصوفة
وعلى ذلك فإن توظيف الملحد لهذه الشبهة يهدف أصلا إلى خلخلة توحيد الأسماء والصفات لدى المسلم وليس لإثبات صحة الإلحاد؛ فالإلحاد لا دليل على صحته أصلا
ويغلب الاستشهاد بهذه الشبهة عند أولئك الملحدين إلحادا نفسيا، فهي شبهة تحرك المشاعر أكثر مما تجول في العقول
ما هذه الشرور؟
الشرور التي تدور حولها هذه الشبهة هي مثل الزلازل والبراكين والفيضانات والأمراض الفتاكة والحروب والقتل.. الخ
ويمكن تصنيف هذه الشرور إلى صنفين رئيسين: الأول هو من الأقدار التي لا يد للبشر فيها، كالكوارث مثلا، والثاني هو تلك الشرور التي يرتكبها الإنسان، كالحروب والقتل والجرائم بأنواعها
قبل أن ترد على الملحد يعمد الملحد دائما إلى طرح الشبهة على المسلم ليبقيه في موقف الدفاع.. ما أقترحه عليك أيها الأخ المسلم هو أن تخبره أنك سوف ترد عليه، ولكن ليخبرك أولا إن كان قد وجد حلا لهذه المشكلة بعد أن صار ملحدا؟ نجد مثلا أن الملحد ستالين قتل ملايين البشر ثم مات ولم ينل عقابه، فهل يوجد في الإلحاد حل لهذه المشكلة؟ هل يقتل بشار هؤلاء الأطفال ويعيث في الأرض فسادا ثم يموت بعد ذلك وينتهي الأمر؟ دعه يخبرك ما هو الحل الذي وجده في الإلحاد لهذه المعضلة ما دام يرد الدين لأجلها! فإن كان يرد الدين لأنه لم يعرف جواب الدين عنها ثم يجدها في الإلحاد أعظم كثيرا، فإن الأجدر به أن يتهم الإلحاد قبل أن يتهم الدين
المفارقة هنا هي أن معضلة الشر قائمة عند الملحد بصورة حقيقية ولن يجد لها حلا ما دام ملحدا، بينما هي غير موجودة عند المسلم إطلاقا كما سنرى، ومع هذا فالملحد هو الذي يوجه هذه الشبهة للمسلم، رغم أن العكس هو المفروض!
تفكيك الشبهة
تقوم الشبهة في أساسها على أن وجود الشر ينافي صفة العدل الإلهي، وهذا هو الطرح الحقيقي للشبهة، فعدم وجود الرحمة لا ينفي وجود العدل، ولكن وجود الظلم ينفي صفة الرحمة، ولا تكتمل الرحمة إلا بتحقق العدل
وهذه الشبهة لا تقوم إطلاقا مع التصور الإسلامي، وإذا انتفى التناقض بين صفتي العدل والقدرة في التصور الإسلامي فقد انتفت الشبهة تماما، وسوف أضرب مثالا لذلك
طفل صغير يصاب بالسرطان فيتعذب ويتألم ثم يموت، بينما طفل آخر يولد صحيحا معافى في أسرة غنية ويعيش حياته طولا وعرضا يتقلب في النعيم. ورغم أن كثيرا من أمراض الأطفال يكون سببها إهمال الأم في صحتها وصحة جنينها، ولكن ألا يبدو في هذا شيء من الظلم للطفل الذي مرض وتعذب ومات؟
هذا ما يبدو بالفعل إذا تناولنا الشبهة بعيدا عن التصور الإسلامي.. ولكن إذا أراد الملحد أن يطرح هذه الشبهة أمام المسلمين فإن عليه أن يحاكمهم إلى دينهم وعقيدتهم وتصورهم وليس إلى معياره هو.. وسوف نرى النتيجة عندما ننظر إلى هذه الشبهة في ضوء عقيدة المسلم
البعد الأخروي يهدم الشبهة
أصول الإيمان في الإسلام ستة: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالقدر خيره وشره. فلا يصح الإسلام دون الإيمان باليوم الآخر
وعندما نتحدث عن المعاملات الدنيوية بين الناس فإن الظلم يقع، ولكنه ظلم بين البشر، ينتهي القصاص منه في المحاكم حين يُقتص للمظلوم من الظالم، فالبشر مجال عملهم ومعاملاتهم هو هذه الدنيا. ولكن عندما نتحدث عن الظلم الدائم من الناحية الوجودية فهو غير موجود، وإذا لم يقتص المظلوم من الظالم في هذه الحياة فإن الله جعل الآخرة هي دار الحساب الذي يتحقق فيه العدل المطلق وينتهي فيه الظلم
أما من ناحية المصائب والبلاء الذي ينزل بالمسلم قدرا دون أن تدخل فيه إرادة البشر فهو ليس ظلما، وقد أشارت النصوص إلى ذلك بوضوح، فإما أن تكون عاقبته ثوابا من عند الله: "إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ" (النساء: 104)، وإما أن يكون رفعة في الدرجات للصابرين المحتسبين: "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ" (الزمر: 10)، وإما أن يكون تكفيرا للذنوب: "ما من مسلم يصيبه أذى، شوكة فما فوقها، إلا كفر الله بها سيئاته كما تحط الشجرة ورقها" (رواه البخاري)
فكل ما يسلب من المسلم الراضي في هذه الدنيا من النعم المؤقتة الفانية يأتيه العوض عنه في الدار الباقية، وقد وصف الله تعالى يوم الحساب بقوله "لا ظلم اليوم" (غافر 17)، وهذا العدل بالطبع شامل لكل المخلوقات
وعلى ذلك فإن الطفل الذي أصيب بالمرض المميت وتعذب خمس سنوات ثم مات سينعم عوضا عن ذلك بنعيم لا يقاس بخمس ولا عشر ولا ألف ولا مليار سنة، وإنما هي حياة أبدية لا نهاية لها من النعيم البالغ
ولكي تكون الصورة أوضح، لنتأمل هذا الحديث الذي ورد في صحيح مسلم: "يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة، فيصبغ في النار صبغةً، ثم يقال: يا ابن آدم هل رأيت خيراً قط؟ هل مر بك نعيمٌ قط؟ فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة، فيصبغ صبغةً في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدةٌ قط؟ فيقول: لا، والله ما مر بي بؤسٌ قط، ولا رأيت شدةً قط." وفي حديث آخر حسنه الألباني يقول صلى الله عليه وسلم: "يَوَدُّ أَهلُ العَافِيَةِ يَومَ القِيَامَةِ حِينَ يُعطَى أَهلُ البَلَاءِ الثَّوَابَ لَو أَنَّ جُلُودَهُم كَانَت قُرِّضَت فِي الدُّنْيَا بِالمَقَارِيضِ." ولهذا فإن المسلم لا إشكال عنده من هذا الجانب الذي يقوم على تحقق العدل المطلق
فالأمر هنا يتجاوز العدل المطلق إلى الرحمة المطلقة وإن بدت للملحد الذي لا يؤمن بالحساب وكأنها نوع من الظلم. وعلى ذلك قس كل ما تراه من مظاهر الآلام والكوارث والمصائب في هذه الحياة الدنيا
وهذا التصور يتردد كثيرا في النصوص الشرعية حتى لا يقع المسلم تحت طائلة الشك، فيقول الله تعالى: " وَمِنَ النَّاسِ مَن يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ." (الحج 11)
بل إن الخير الدنيوي الذي نراه خيرا قد يكون في حقيقته فتنة وشرا، وهذا يتوافق مع التصور الإسلامي للحياة الدنيا وعدم كمالها.. فقد ينعم الله على امرئ فيفسق ويبطر ويتجبر ولا يشكر المنعم، ويكون هذا الخير الظاهري فتنة، قال تعالى: " كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ." (الأنبياء 35)
وهكذا نرى أن الموقف واضح تماما أمام المسلم.. فإذا كان من صفات الخالق العدل المطلق والرحمة المطلقة، وإذا كان العدل المطلق متحقق يوم الحساب، ويوم الحساب لم يأت بعد، فإن إثبات الظلم منتفٍ تماما، ويصبح من العبث ما يقوم به الملحد من إثارة هذه الشبهة
الإرادة الحرة من ضرورات دار الاختبار
المسلم يعي جيدا أن هذه الحياة الدنيا هي دار اختبار كما قال تعالى: "الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ" (الملك 2)، ويعي تماما أن من مقتضى دار الاختبار والحساب أن يكون المرء حرا في إرادته، يعمل الصالحات ويرتكب السيئات، فيثاب على حسناته ويعاقب على سيئاته، ومن هذه السيئات ما يتعلق بالاعتداء على حقوق الناس من نفس ومال وعرض.. الخ
ولهذا فإنه لا معنى لما يدندن حوله الملاحدة كثيرا من وقوع الحروب والقتل والمظالم بين البشر فيتساءلون: أين الله عن هذه الجرائم؟ فالجواب على مثل هذا السؤال ورد في نصوص شرعية كثيرة مثل قوله تعالى: "وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلا" (الفرقان 27) وقوله: "إِنَّا أَنذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنتُ تُرَابًا" (النبأ 40)، وغيرها من النصوص
والظالم إنسان حر في إرادته، إن اقتص منه في هذه الحياة أو تاب ورد المظالم إلى أهلها وإلا فإن الحساب العادل ينتظره يوم القيامة، وحينها ينتهي ظلمه ويتحقق العدل المطلق
الشبهة من زاوية أخرى
هناك من يطرح شبهة وجود الشر من زاوية أخرى بعيدا عن العدل والرحمة، وهي زاوية الحكمة؛ فيتساءل عن سبب وجود الشر ابتداءً، وما إذا كان وجود الخير فحسب هو الأجدى
ومن يفهم سنن الخلق والوجود لا يطرح مثل هذا التساؤل، فالكون لا يقوم إلا على أساس التكافل في منظومة الوجود، ولا يمكنك أن تطلق الأحكام إلا من خلال النظر في كامل الصورة التي تجمع الأضداد ويظهر من خلالها التباين الذي تتضح معه الأجزاء
الحاجة والفقر شر، فهل توجد صفة الكرم بدونها؟ والخطر شر، فهل توجد الشجاعة بدونه؟ وهكذا فإن اللذة والشبع والري والصحة والنصر والجمال لا توجد بلا جوع وعطش ومرض وهزيمة وقبح.. بل إن الظلم في هذه الدنيا شر، فكيف نعرف العدل أصلا إذا لم نعرف الظلم؟
ومن أكثر العبارات تصويرا لأهمية هذا التباين تلك العبارة التي يتداولها العامة حول قيمة الصحة بقولهم: "الصحة تاج على رؤوس الأصحاء لا يراها إلا المرضى"
الدنيا نموذج لفهم الآخرة
في كل زاوية ننظر من خلالها إلى التصور الإسلامي نجد أنه متناغم جدا، فوجود الخير والشر في الدنيا، وخصوصا اللذة والألم، يوفر للمسلم مثالا ملموسا لما سيراه في الآخرة، فالجنة فيها من النعيم ما يشبه نعيم الدنيا من المطاعم والمشارب واللذات ولكنه أكمل وأرقى كثيرا، وفي الحديث القدسي الوارد في البخاري قوله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر
ومن الجانب الآخر فإن الألم والعذاب في هذه الدنيا مؤشر بسيط للعقاب الشديد في الآخرة، وهذا من تمام الحجة على الناس، فالله لا يحذرنا من عذاب لا نستطيع أن نتصوره أو ألم لا نعرف عنه شيئا
هل الشر محض؟
ونحن نتحدث عن الشر يجب أن ندرك جيدا أن الشر نسبي، فالله تعالى لم يخلق شرا محضا في هذه الدنيا، والأصل في الوجود هو الخير، وإنما الشر هو سلب نسبي للخير. فالقاعدة هي الخير والاستثناء هو الشر. والأمثلة في ذلك كثيرة جدا، فكل شر في هذه الدنيا هو استثناء يمكنك أن تتلمس جانبا من الخير فيه، فاستقرار الأرض هو القاعدة والزلازل استثناء، وهذا الاستثناء يساعد بدوره على تثبيت القاعدة فهو من أسباب استقرار قشرة الأرض، والصحة هي القاعدة واستثناؤها هو المرض، واستئصال العضو المصاب هو الشر الاستثنائي الذي فيه سلامة باقي الجسد، والألم المبرح إنما هو إشارة إلى وجود المرض المؤذي الذي يستلزم العلاج، وتعد متلازمة غياب الحس بالألم (CIPA) مرضا خطيرا قد يحرم المصاب من اكتشاف الإصابات المميتة، وقس على ذلك
من جانب آخر، يمكن للشر الظاهر أن يكون في حقيقته خيرا، وقد ذكر الله تعالى قصة الخضر وكيف أنه خرق السفينة وقتل الغلام، وهذه من الأعمال التي تبدو شرا ظاهريا، ولكنها في الحقيقة خير كما بيّن الخضر لموسى عليهما السلام