حاجة إنسانية عالمية وعبر العصور، يسعى إليه الجميع على اختلاف ألوانهم، عقائدهم، أعراقهم، جنسياتهم، أعمارهم، أجناسهم، مستويات ثرائهم، قدراتهم، أو حتى تقدمهم التكنولوجي. هذه الرغبة ليست بدعة عصرية، بل هي سعي متواصل للبشرية جمعاء
لقد سلكت البشرية دروبًا متنوعة لتحقيق هذا السلام المنشود. البعض اعتقد أنه يكمن في تراكم الممتلكات المادية والثروة. آخرون بحثوا عنه في المخدرات أو الموسيقى. بينما اتجه البعض نحو التأمل، أو وجدوه في شريك الحياة، أو في النجاح المهني، أو حتى في إنجازات الأطفال. لكن البحث لا يزال جاريًا
في عصرنا الحالي، يُقنعنا السرد السائد بأن التقدم التكنولوجي والحداثة سيجلبان لنا الراحة الجسدية، ومن خلالها سنصل إلى السلام الداخلي. ومع ذلك، إذا نظرنا إلى الولايات المتحدة، التي تُعدّ الأكثر تقدمًا تكنولوجيًا وصناعيًا في العالم، سنجد أن فكرة حصولهم على السلام الداخلي بعيدة عن الواقع
حقائق مؤلمة: الاكتئاب والانتحار في عصر التقدم
تشير الإحصاءات إلى أن حوالي 20 مليون بالغ يصابون بالاكتئاب سنويًا في أمريكا. وما الاكتئاب إلا دليل صارخ على انعدام السلام الداخلي. إضافة إلى ذلك، تخبرنا الإحصائيات في عام 2000 أن معدل الوفيات بسبب الانتحار كان ضعف معدل الوفيات بسبب الإيدز. ومع ذلك، تظل وسائل الإعلام تركز على ما يناسب أجندتها، فنسمع عن الذين يموتون بالإيدز أكثر بكثير مما نسمع عن ضحايا الانتحار. والأكثر إثارة للقلق هو أن عدد الأشخاص الذين يموتون بسبب الانتحار في أمريكا يفوق معدلات جرائم القتل، على الرغم من أن معدلات القتل نفسها مرتفعة للغاية
الحقيقة التي لا مفر منها هي أن التقدم التكنولوجي والحداثة لم يحققا السلام الداخلي والهدوء. على العكس تمامًا، يبدو أننا اليوم أبعد عن السلام الداخلي مما كان عليه أسلافنا، بالرغم من كل وسائل الراحة التي جلبها لنا هذا التقدم
في معظم جوانب حياتنا، يظل السلام الداخلي بعيد المنال؛ لا يبدو أننا قد استطعنا بلوغه بعد
هل تعتقد أن هناك مفتاحًا آخر للسلام الداخلي لم يتم استكشافه بالقدر الكافي؟
الفارق بين اللذة الشخصية والسلام الداخلي
الكثير منا يخلط بين الملذات الشخصية والسلام الداخلي. نستطيع أن نحقق اللذة من أشياء متنوعة، سواء كانت ثروة، علاقات جنسية، أو غير ذلك. لكن هذه الملذات لا تدوم؛ فهي تأتي وتذهب. نعم، نشعر بسعادة ولذة شخصية من وقت لآخر، لكن هذا ليس هو السلام الداخلي الحقيقي.
السلام الداخلي الحقيقي هو شعور بالاستقرار والرضا يمكننا من خلاله تجاوز المحن وصعوبات الحياة. يجب أن نفهم أن السلام ليس شيئًا سيوجد في هذا العالم من حولنا بشكل مطلق. فإذا عرّفنا السلام وفقًا لتعريف القاموس، فإنه يشير إلى التحرر من الحرب أو الحرب الأهلية. لكن أين هذا الواقع في عالمنا؟ دائمًا ما تقع حروب أو اضطرابات مدنية في مكان ما من العالم. وإذا نظرنا إلى السلام من منظور الدول، فهو التحرر من الفوضى العامة والأمن، ولكن أين يوجد هذا في العالم بشكل كامل؟ وإذا نظرنا إلى السلام على المستوى الاجتماعي والأسرة والعمل، فهو التحرر من الخلافات والجدال، ولكن هل توجد بيئة اجتماعية لا يوجد بها خلافات أو جدال؟ حتى على مستوى الموقع، نعم، يمكن أن نجد مكانًا هادئًا يتمتع بالسلام والهدوء في بعض الجزر على سبيل المثال، لكن هذا السلام الخارجي موجود فقط لفترة قصيرة من الوقت، فعاجلاً أم آجلاً ستعتريه عاصفة أو إعصار
طبيعة الحياة: كبد واختبار
يقول الله عز وجل:
لَقَد خَلَقنَا الإِنسانَ في كَبَدٍ (سورة البلد: 4)
هذه هي طبيعة حياتنا؛ نعيش حياة من الكد والنضال، حالات من الصعود والهبوط، وأوقات من الصعوبات وكذلك أوقات من الراحة. إنها حياة مليئة بالاختبارات، كما يقول الله:
للتعامل مع ظروف الكد والنضال التي نعيشها، فإن الصبر هو المفتاح. ولكن إذا عدنا إلى السلام الداخلي الذي نبحث عنه، فلا يمكن للصبر أن يتجلى بشكل كامل ما لم نكن نتمتع بروح السلام الداخلي.
نحن نعيش في عالم من الكدح والنضال، ولكن في داخلنا، من الممكن تحقيق السلام الداخلي، والسلام مع بيئتنا ومع العالم الذي نعيش فيه
خطوات عملية نحو السلام الداخلي: تحديد العقبات وإزالتها
من الواضح أن السلام الداخلي لا يتحقق بسهولة؛ فهناك عقبات تمنعنا من بلوغه. لذا، الخطوة الأولى هي تحديد هذه العقبات في حياتنا، ثم وضع استراتيجيات فعالة لإزالتها. فمجرد التفكير في إزالة العوائق لا يكفي؛ بل يتطلب الأمر خطوات عملية ومدروسة
فكيف نبدأ في إزالة هذه العقبات لتحقيق السلام الداخلي الذي نطمح إليه؟
الخطوة الأولى: الوعي بالعقبات
يجب أن نكون على دراية تامة بالعقبات التي تواجهنا. إذا لم نتمكن من التعرف عليها، فلن نتمكن من إزالتها أبدًا. الوعي هو نقطة البداية لأي تغيير حقيقي
الخطوة الثانية: قبول العقبات كجزء من أنفسنا
تتمثل الخطوة الثانية في قبول هذه العقبات كجزء من أنفسنا في الوقت الحالي. على سبيل المثال، الغضب هو أحد أكبر العقبات أمام السلام الداخلي. فكيف يمكن لشخص غاضب ومجهد أن ينعم بالسلام الداخلي؟ هذا ليس ممكنًا. لذا، يحتاج الشخص إلى إدراك أن الغضب يمثل عقبة حقيقية أمام بلوغ مرحلة السلام الداخلي.
ومع ذلك، إذا قال شخص ما: "نعم، إنها عقبة، لكنني لا أغضب"، فإن هذا الشخص يواجه مشكلة أعمق. إنه لم يقبل بهذه العقبة كجزء من مشكلته، وهو في حالة إنكار ذاتي. وبناءً عليه، لن يتمكن من إزالة العقبات التي تواجهه طالما ظل في حالة الإنكار.
تصنيف العقبات والتمييز بينها
عندما ننظر إلى العقبات في الحياة، يمكننا تقسيمها إلى أنواع مختلفة: المشاكل الشخصية، القضايا العائلية، المعضلات المالية، ضغوط العمل، والاضطراب الروحي. ويندرج تحت كل نوع الكثير من الأمثلة، مما يجعل مشاكلنا وعقباتنا أشبه بالأمراض. إذا حاولنا التعامل مع كل واحدة على حدة، فلن نتمكن من التغلب عليها أبدًا.
لذا، نحتاج في البداية إلى تحديد هذه العقبات ووضعها في فئات عامة، ثم معالجتها كمجموعة بدلاً من محاولة معالجة كل عقبة ومشكلة بصورة فردية. وللقيام بذلك، يتعين علينا أولاً وقبل كل شيء إزالة العقبات الخارجية التي تخرج عن سيطرتنا. يجب أن نكون قادرين على التمييز بين العقبات التي تقع تحت سيطرتنا والعقبات التي تخرج عن إرادتنا. في حين أننا قد ندرك وجود بعض الأشياء الخارجية التي تواجهنا كعقبات وتخرج عن سيطرتنا، فإن الحقيقة هي أنها ليست كذلك. إنها الأشياء التي قدرها الله لنا في حياتنا، فهي ليست في الحقيقة عقبات، لكننا أسأنا تفسيرها على أنها عقبات
هل ترى أن القدرة على التمييز بين أنواع العقبات - تلك التي يمكننا التحكم بها وتلك التي لا يمكننا - هي خطوة أساسية نحو تحقيق السلام الداخلي؟
قد يجد المرء نفسه، على سبيل المثال، وُلد أسود في عالم يفضل البيض، أو فقيرًا في عالم يحابي الأغنياء، أو قصير القامة، أو من ذوي الهمم، أو يعاني من أي حالة جسدية أخرى تُعد إعاقة. كل هذه الأمور كانت ولا تزال خارجة عن إرادتنا. لم نختار العائلة التي نولد فيها، ولا الجسد الذي نُنفخ فيه الروح
لذا، مهما واجهنا من هذه الأنواع من العقبات، علينا فقط أن نتحلى بالصبر معها، وندرك أنها في الواقع ليست عقبات حقيقية. يجب أن نتذكر قول الله عز وجل:
العقبات الخارجة عن سيطرتنا قد نكرهها وقد نرغب في تغييرها، والبعض ينفق الكثير من المال في محاولة ذلك. مايكل جاكسون مثال على ذلك؛ فقد وُلد أسود في عالم يفضل البيض، فأنفق الكثير من المال في محاولة لتغيير نفسه، لكنه انتهى به الأمر إلى تشويه شكله.
لا يمكن تحقيق السلام الداخلي إلا إذا تحملنا بصبر العقبات الخارجية التي تواجهنا وتخرج عن سيطرتنا، من خلال الإيمان بأنها من قدر الله. اعلم أن مهما حدث لنا أو ليس لنا سيطرة عليه، فإن الله قد وضع فيه بعض الخير، سواء كنا قادرين على فهم ما هو خير فيه أم لا؛ فالخير لا يزال موجودًا. لذلك، يجب علينا قبوله.
هل تجد في هذا المنظور راحة للتعامل مع جوانب الحياة التي لا يمكن تغييرها؟
في قصة مؤثرة تداولتها الصحف، ظهرت صورة لرجل مصري يبتسم ابتسامة عريضة، ويداه مرفوعتان وإبهاماه للأعلى، بينما يقبله والده من خد وأخته من الخد الآخر. هذا المشهد المبهج يخفي وراءه قصة نجاة غير متوقعة.
لحظة يأس تحولت إلى نجاة
كان هذا الرجل مدرسًا في البحرين، وكان من المفترض أن يستقل رحلة طيران الخليج من القاهرة إلى البحرين في اليوم السابق. هرع إلى المطار، لكنه اكتشف أن جواز سفره يفتقد ختمًا واحدًا. في القاهرة، يتطلب الحصول على الأختام المرور بالعديد من الموظفين، وهذا الختم الناقص منعه من السفر
بما أنها كانت الرحلة الأخيرة التي تمكنه من العودة في الوقت المحدد لعمله، أدرك أنه قد يفقد وظيفته. توسل إليهم للسماح له بالسفر، لكن محاولاته باءت بالفشل. أصابه اليأس الشديد، وبدأ يبكي ويصرخ في حالة من الهياج، لكن الطائرة أقلعت بدونه. عاد إلى منزله في القاهرة في حالة ذهول، معتقدًا أن حياته المهنية قد انتهت. حاولت أسرته مواساته وطلبت منه ألا يقلق
في اليوم التالي، سمع الخبر الصادم: الطائرة التي كان من المقرر أن يستقلها تحطمت، ولم ينجُ من كان على متنها أحد. شعر بسعادة غامرة لأنه لم يقم بالرحلة. ما بدا يوم أمس كارثة حقيقية، تحول اليوم إلى فرحة عظيمة بنجاته من حادث مروع لم يكن في الحسبان.
علامات القدر في قصص الأنبياء
هذه الأحداث ليست مجرد صدف، بل هي علامات تشير إلى حكمة القدر الخفية، ويمكن العثور على مثل هذه العلامات في قصة موسى والخضر، وهي قصة عظيمة تُروى في سورة الكهف من القرآن الكريم، التي يُستحب قراءتها كل جمعة
تتضح الحكمة الإلهية في قصة الخضر عندما قام بخرق السفينة التي كانت تحمله هو والنبي موسى عليهما السلام مع أصحابها الفقراء. عندما رأى أصحاب السفينة الثقب، تساءلوا عن الفاعل واعتقدوا أنه عمل سيء. بعد فترة وجيزة، نزل ملك ظالم إلى النهر وكان معروفًا بالاستيلاء على كل سفينة صالحة بالقوة [1]. لكنه ترك السفينة التي بها الخرق، فتوجه أصحابها إلى الله بالشكر لوجود الثقب الذي أنقذهم من بطش الملك الظالم. كانت السفينة مصدر رزقهم الوحيد، وقد أراد الخضر أن تبدو معيبة حتى لا يستولي عليها الملك، وبذلك استمر الفقراء في الانتفاع بها. هذه القصص تذكرنا بأن ما يبدو لنا شرًا قد يكون في حقيقته خيرًا عظيمًا، وأن أقدار الله تحمل في طياتها حكمة لا ندركها دائمًا
العقبات الخفية والإيمان: رؤى عميقة
نواجه في حياتنا عقبات أخرى، أو بالأحرى أمورًا تبدو عقبات، لا نستطيع فهم أبعادها أو تفسير سبب حدوثها. بالنسبة للبعض، تدفعهم هذه الأمور إلى الكفر، فيفقدون السلام الداخلي ويرفضون الإيمان بالله. إن هذا التحول إلى الإلحاد، دون أن يكون قد ترعرع عليه الشخص منذ الطفولة، عادة ما ينبع من مأساة عميقة
إن الكفر بالله أمر غير طبيعي، بينما الإيمان به هو الفطرة التي خلقنا الله عليها. يقول الله تعالى:
كلُّ مولودٍ يولَدُ على الفطرةِ فأبواه يُهوِّدانِه أو يُنصِّرانِه أو يُمجِّسانِه (متفق عليه)
المآسي وغياب التفسيرات: دافع نحو الإلحاد
عندما يواجه شخص مأساة في حياته دون وجود تفسيرات واضحة لسبب حدوثها، قد يلجأ إلى الإلحاد. على سبيل المثال، قد يحكي ملحد عن عمة رائعة وطيبة أحبها الجميع، لكنها تعرضت لحادث سيارة مفاجئ وماتت. لماذا حدث هذا لها بالذات؟ لا توجد تفسيرات! أو ربما فقد شخص طفله ويتساءل: لماذا حدث هذا لطفلي؟ لا توجد تفسيرات! ونتيجة لمآسٍ كهذه، يعتقد البعض أنه لا يمكن أن يكون هناك إله.
حكمة القدر: قصة موسى والخضر مرة أخرى
نعود إلى قصة موسى والخضر، ففيها حكمة عميقة تظهر لنا كيف أن ما يبدو شرًا قد يكون في طياته خيرًا عظيمًا. بعد أن عبر موسى والخضر النهر، صادفا طفلاً، فقام الخضر بقتله عمدًا. استنكر موسى ذلك، متسائلًا كيف يمكن للخضر أن يفعل مثل هذا الشيء بطفل بريء؟
أوضح الخضر لموسى أن هذا الطفل كان له أبوان صالحان، وقد علم الله أنه لو كبر هذا الطفل، لكان سيشكل رعبًا لوالديه ويدفعهما إلى الكفر. لذلك، أمر الله بموت الطفل. بالطبع، حزن الوالدان عندما وجدا طفلهما ميتًا، إلا أن الله استبدل ولدهم بطفل صالح وخير لهما. هذا الطفل الجديد كرمهما وكان خيرًا لهما ومن أجلهما. ومع ذلك، ستظل في قلب الوالدين فجوة بسبب فقدان طفلهما الأول، حتى يوم القيامة، حيث سيقفان أمام الله ويكشف لهم عن حكمة هذا القدر
هذه القصة تذكرنا بأن فهمنا للقدر محدود، وأن هناك دائمًا حكمة إلهية وراء الأحداث، حتى لو لم ندركها في حينها. القبول بهذه الحقيقة هو مفتاح السلام الداخلي.
فهم الابتلاءات وتحقيق السلام الداخلي
في رحلة الحياة، قد تواجهنا أحداث تبدو سلبية أو مؤلمة، مثل فقدان طفل، وقد تبدو هذه الأحداث كأنها عوائق أمام السلام الداخلي. هذا يحدث غالبًا لأننا لا نفهم الحكمة الكامنة وراءها أو لماذا حدثت لنا. لكننا بحاجة إلى أن نضع هذه الأمور جانبًا ونؤمن إيمانًا راسخًا بأنها أقدار من الله. علينا أن نثق بأن في النهاية هناك خير يكمن وراء وقوع تلك الأحداث، سواء كنا ندرك حكمتها أم لا.
التركيز على التغيير الذاتي لإزالة العقبات
بعد التسليم لأقدار الله، ننتقل إلى تلك الأمور التي يمكننا تغييرها. الخطوة الأولى هي تحديد هذه العقبات. ثم ننتقل إلى الخطوة الرئيسية الثانية وهي إزالة هذه العقبات من خلال تطوير الحلول لها. لإزالة هذه العقبات، علينا أن نركز بشكل كبير على تغيير الذات. فالله عز وجل يذكرنا في كتابه العزيز بقوله الكريم
هذه الآية الكريمة تشير إلى أن مجال تغيير الذات هو المنطقة التي نملك القدرة على تطويعها والتحكم فيها
الصبر كنموذج للتغيير الذاتي
كمثال على إمكانية تغيير الذات، يمكننا أن نعمل على تعزيز الصبر لدينا. على الرغم من الفكرة الشائعة بأن الصبر صفة يولد بها بعض الناس، إلا أنه يمكن اكتسابها. جاء رجل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، فسأله عما يلزمه ليبلغ الجنة، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم"لا تغضب" (صحيح البخاري).
كان هذا الرجل معروفًا بسرعة غضبه، فأخبره النبي صلى الله عليه وسلم بوضوح أنه بحاجة إلى تغيير طبيعته الغاضبة. وهذا يدل على أن تغيير الذات والشخصية أمر ممكن التحقيق. فمن خلال العمل على أنفسنا، يمكننا التغلب على العقبات وتحقيق السلام الداخلي
هل ترى أن التركيز على تغيير الذات يمكن أن يحدث فرقًا كبيرًا في طريقة تعاملنا مع تحديات الحياة؟
اكتساب الصبر: هبة من الله ومجهود بشري
يُعدّ الصبر مفتاحًا أساسيًا للسلام الداخلي، وهو ليس حكرًا على فئة دون أخرى. فقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم في قوله
"من يستعف يعفّه الله، ومن يتصبر يصبره الله، ومن يستغن يغنه الله، ولن تعطوا عطاء خيرًا وأوسع من الصبر." (متفق عليه)
هذا الحديث يؤكد أن الصبر صفة يمكن اكتسابها وتنميتها، حتى لو لم يولد بها الإنسان. فمن يجاهد نفسه ليتصبر، فإن الله يعينه على ذلك ويمنحه هذه النعمة العظيمة
الغضب: حكمة نبوية ورؤى علمية
من المثير للاهتمام أن نرى كيف تتفق توجيهات النبي صلى الله عليه وسلم مع أحدث الاكتشافات في علم النفس. ففي السابق، كانت بعض مدارس الطب النفسي الغربي تشجع على التعبير عن الغضب وعدم كبته، اعتقادًا بأن كتمانه قد يؤدي إلى الانفجار
لكن الأبحاث العلمية الحديثة أظهرت عكس ذلك تمامًا. فقد اكتشف العلماء أن التعبير عن الغضب بشكل مفرط قد يؤدي إلى انفجار الأوعية الدموية الدقيقة في الدماغ، مما يشير إلى أن السماح بإبداء مشاعر الغضب كان أمرًا خطيرًا ومن المحتمل أن يكون ضارًا. ولهذا السبب، يوصي العلماء الآن بضرورة التحكم في الغضب وعدم إطلاق العنان له
لقد أرشدنا النبي صلى الله عليه وسلم منذ قرون إلى التحلي بالصبر والتحكم في الغضب. يجب أن نسعى لإظهار الصبر في سلوكنا الخارجي، حتى لو كنا نشعر بالغضب من الداخل. ليس الهدف من ذلك خداع الناس، بل هو وسيلة لتطوير قدرتنا الحقيقية على الصبر. وإذا اتفقنا على ذلك وجاهدنا أنفسنا، فإن الصبر الخارجي سيتحول تدريجيًا إلى صبر داخلي، وبالتالي يمكن تحقيق الصبر الكامل كما ورد في الحديث الشريف
القناعة: نظرة نبوية للمال والسعادة
من بين الأساليب التي تساعدنا على تحقيق الصبر، النظر في كيفية تأثير العوامل المادية في حياتنا. وقد نصحنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بكيفية التعامل مع هذه العوامل المادية بقوله عن أبي هريرة رضي الله عنه
قال رسولُ اللَّه ﷺ: "انْظُرُوا إِلَى مَنْ هو أَسفَل مِنْكُمْ وَلا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوقَكُم؛ فهُوَ أَجْدَرُ أَن لا تَزْدَرُوا نعمةَ اللَّه عَلَيْكُمْ." (متفقٌ عَلَيْهِ)
هذا لأننا، بغض النظر عن وضعنا، دائمًا ما نجد من هم أسوأ منا. يجب أن تكون هذه استراتيجيتنا العامة فيما يتعلق بالحياة المادية. في الوقت الحاضر، تشكل الحياة المادية جزءًا كبيرًا من حياتنا، ويبدو أننا مهووسون بها؛ فكسب أكبر قدر ممكن في هذا العالم يبدو النقطة الرئيسية التي يركز معظمنا طاقاتنا عليها. لذلك، حتى لو كان المرء يسعى للرزق، فلا ينبغي أن يترك ذلك يؤثر على سلامه الداخلي
الرضا في عالم المادة: مفتاح السعادة
أثناء التعامل مع العالم المادي، يجب ألا نركز باستمرار على أولئك الذين هم أفضل حالًا منا، وإلا فلن نكون راضين أبدًا عما لدينا. قال النبي صلى الله عليه وسلم
"لو أنَّ لابنِ آدَمَ واديًا مِن ذهَبٍ لَأحَبَّ أنْ يكونَ له وادٍ آخَرُ ولا يملَأُ فاه إلَّا التُّرابُ ويتوبُ اللهُ على مَن تاب" (صحيح مسلم)
القول المأثور "العشب دائمًا أكثر خضرة على الجانب الآخر" يعكس هذه الحقيقة؛ فكلما زاد ما يمتلكه الشخص، زادت رغباته. لا يمكننا تحقيق الرضا في العالم المادي إذا كنا نطارده بهذه الطريقة. بل يجب أن ننظر إلى من هم أقل حظًا منا، وبهذه الطريقة سوف نتذكر العطايا والمنافع والرحمة التي منحنا إياها الله فيما يتعلق بثروتنا الخاصة، مهما بدت قليلة
هل ترى أن تطبيق هذه التوجيهات النبوية يمكن أن يساعدك في تحقيق رضا أكبر في حياتك؟
"الأهم أولاً": مبدأ نبوي لتنظيم الحياة
لقد أشار النبي صلى الله عليه وسلم إلى مبدأ جوهري يساعدنا على التعامل مع تحديات الحياة المادية بمنظور صحيح، وهو ما يمكن مقارنته بمبدأ "الأهم أولاً" الذي اشتهر به ستيفن كوفي. لكن الرسول الكريم أرشدنا إلى هذا المبدأ منذ أكثر من 1400 عام، مؤكدًا للمؤمنين أن أولوياتهم هي مفتاح سعادتهم ونجاحهم في الدنيا والآخرة.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم
من كانت الدُّنيا همَّهُ فرَّقَ اللَّهُ عليْهِ أمرَهُ، وجعلَ فقرَهُ بينَ عينيْهِ ولم يأتِهِ من الدُّنيا إلَّا ما كتُبَ لَهُ ومن كانت الآخرةُ همَّهُ جمعَ اللَّهُ لَهُ أمرَهُ وجعلَ غناهُ في قلبِهِ، وأتتْهُ الدُّنيا وهيَ راغمةٌ (ابن ماجه وابن حبان)
هذا الحديث النبوي الشريف يرسم لنا خريطتين مختلفتين للحياة، بناءً على ما يجعله الإنسان همّه الأكبر
· إذا كانت الدنيا هي همّ الإنسان الرئيسي: يصبح أمره متفرقًا ومشتتًا، فالله يفرق عليه شؤونه، ويجعل الفقر نصب عينيه، حتى لو امتلك الكثير، فإنه لا يشعر بالقناعة أبدًا. ولا يأتيه من الدنيا إلا ما قُدر له ورُزق به
· إذا كانت الآخرة هي همّ الإنسان الرئيسي: فإن الله يجمع له أمره ويوفق بين شؤونه، ويضع الغنى في قلبه، فتأتيه الدنيا وهي راغمه وخاضعة له، دون أن يسعى خلفها بلهفة وقلق
هذا المبدأ النبوي يعلمنا أن التركيز على الآخرة ليس زهدًا في الدنيا بالضرورة، بل هو الطريق الأمثل لتحقيق التوازن والراحة في التعامل معها. إنه يدعونا إلى ترتيب الأولويات ووضع ما هو أبقى وأهم في المقدمة
لذلك لن تجتمع شؤون الإنسان من أجله، سيكون مشتتا في كل مكان، مثل دجاجة مستوحشة مقطوعة رأسها؛ إذا جعل هذا العالم الدنيوي هدفه. سيضع الله الفقر أمام عينيه وبغض النظر عن مقدار المال الذي يملكه سيشعر بالفقر. في كل مرة يكون فيها شخص ما لطيفًا معه أو يبتسم له يشعر أنه يفعل ذلك فقط لأنهم يريدون أمواله، ولا يمكنه الوثوق بأحد ولن يذوق طعم السعادة. ومثلا عندما ينهار سوق الأسهم تقرأ عن انتحار بعض من استثمروا فيه. قد يكون الشخص قد حصل على 8 ملايين وخسر 5 ملايين مع بقاء 3 ملايين بعد انهيار السوق، لكن خسارة 5 ملايين تبدو له هي النهاية. ولا يرى فائدة من العيش بعد ذلك، فقد جعل الله الفقر بين عينيه
علينا أن نضع في اعتبارنا أن الناس لن يحصلوا من هذا العالم إلا ما كتبه الله لهم بالفعل، هذا هو المحصلة النهائية. بعد كل هذا الركض، والسهر لوقت متأخر من الليل، وكونه مدمنًا على العمل، فإن الشخص سيحصل فقط على ما كتبه الله له بالفعل. قال النبي صلى الله عليه وسلم "من كانت الآخرةُ همَّهُ جمعَ اللَّهُ لَهُ أمرَهُ وجعلَ غناهُ في قلبِهِ، وأتتْهُ الدُّنيا وَهيَ راغمةٌ" (ابن ماجه وابن حبان)
طريق السلام الداخلي: ذكر الله في كل تفاصيل حياتك
هل تبحث عن السلام الداخلي؟ إنه ليس بعيد المنال كما تظن، فالمفتاح يكمن في ذكر الله في كل جوانب حياتنا. لكن دعنا نوضح أمرًا هامًا: ذكر الله ليس مقتصرًا على الجلوس في زاوية مظلمة وترديد اسمه مرارًا وتكرارًا "الله، الله، الله...". هذه الصورة النمطية لا تعكس المعنى الحقيقي للذكر
تخيل معي، لو أن أحدهم جاء إليك (واسمك محمد، على سبيل المثال) وبدأ يردد "محمد، محمد، محمد..." بشكل مستمر، ألن تتساءل عن السبب؟ ما الذي يريده هذا الشخص؟ هل يحتاج شيئًا؟ ما الغرض من تكرار اسمك بهذه الطريقة دون أي سياق أو حديث؟
إن ذكر الله أعمق من مجرد ترديد لفظي. إنه استحضار وعيه في كل أفعالنا، أقوالنا، وحتى أفكارنا. هو أن نتذكر قدرته، عظمته، ورحمته في كل لحظة، وأن نعيش حياتنا وفقًا لمبادئه.
حقيقة ذكر الله وطريق السلام الداخلي
إن ذكر الله لا يقتصر على أفعال معينة أو طقوس مبتدعة. فالنبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر الله بترديد اسمه مرارًا وتكرارًا في زاوية منعزلة، ولا بالرقص أو التمايل من جانب لآخر. لم تُذكر هذه الأفعال في سنته المطهرة، ولا يوجد ما يدل على قيامه بها أبدًا.
لقد كانت حياة النبي صلى الله عليه وسلم بأكملها ذكرًا لله. عاش حياته كلها مستحضرًا لله في كل أقواله وأفعاله وقراراته. هذا هو الذكر الحقيقي: أن يكون الله حاضرًا في صلواتنا، في حياتنا، وحتى في مماتنا. أن نستشعر وجوده في كل تفاصيل يومنا، ونعيش وفقًا لما يرضيه.
الوصول إلى السلام الداخلي
باختصار، يكمن السلام الداخلي في منهج عملي يبدأ بـالآتي
تحديد المشاكل والعقبات: يجب أن نعترف بوجود التحديات التي تواجهنا في حياتنا
التركيز على ما يمكننا تغييره: السلام الداخلي لا يتحقق إلا عندما نحدد هذه العقبات ونفهم أي منها يقع في نطاق سيطرتنا، ثم نركز جهودنا على تغيير تلك التي تتعلق بأنفسنا
تغيير الذات: عندما نغير أنفسنا ونصلح ما بداخلنا، فإن الله سبحانه وتعالى يغير العالم من حولنا ويمنحنا الوسائل اللازمة للتعامل مع هذا العالم المضطرب
التسليم لقضاء الله
على الرغم من أن العالم قد يكون في حالة اضطراب، فإن الله عز وجل يمنحنا السلام الداخلي من خلاله. فمهما حدث، فإننا نعلم أنه قدر الله، وأنه اختبار لنا من الله تعالى. ونوقن أن في النهاية، كل ما يمر بنا هو لغرض تحقيق الخير لنا، حيث نجد فيه الخير الحقيقي
لقد خلقنا الله في هذا العالم كطريق للوصول إلى جنات الخلد والفردوس الأعلى، والفتن والتحديات في هذه الحياة هي وسيلة للارتقاء الروحي وتحقيق درجات أعلى عند الله. إذا استطعنا أن نقبل كل هذا، ونسلم قلوبنا لله تسليمًا كاملاً، حينها فقط يمكننا أن نجد السلام الداخلي الحقيقي
[1] كان الملك ظالمًا، واشتهر بالاستيلاء على كل سفينة صالحة بالقوة. لكن أصحاب السفينة كانوا من الفقراء، وكانت تلك السفينة هي مصدر رزقهم الوحيد. لذلك، أراد الخضر أن تبدو السفينة معيبة حتى لا يستولي عليها الملك، وبذلك يتمكن الفقراء من الاستمرار في الانتفاع بها