إن ديننا الحنيف قد اهتمَّ بجانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أيما اهتمام، فجعله مناط الخيرية فينا؛ فقال سبحانه: ﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ ﴾ [آل عمران: 110]
وأرشدنا المصطفى النبي الكريم عليه الصلاة والسلام إلى أن من مراتب إنكار المنكر إنكار القلب، وأن الاكتفاء به هو أضعف الإيمان [1] فما بالك بالقلب الذي لا ينكر المنكر؟
إن القلوب إذا ماتَتْ ذهب منها إحساس الإنكار، وصار كما أخبر عنها النبي الكريم عليه الصلاة والسلام: ((أسود مُرْبَادًّا؛ كالكوز مُجَخِّيًا، لا يعرف معروفًا، ولا ينكر منكرًا)) [2]
وموت القلوب لا يكون بارتكاب الذنوب والمنكرات فحسب؛ بل يكون كذلك بكثرة مخالطة أهلها، وكثرة مشاهدتها؛ لذلك فقد حثَّنا هذا الدين على مجانبة أهل المعاصي وأهل الذنوب، وأمرنا بصحبة الصالحين ومجالستهم
كنت في مؤتمر دولي قرآني في ماليزيا، مؤتمر جمع كثيرًا من المتخصِّصين بتفسير القرآن وعلومه من شتى الدول، وكان ذلك في 14-15 من نوفمبر من هذا العام، وبعد المؤتمر وأنا جالس مع بعض مشاركي المؤتمر، كان زميلنا من حفر الباطن أبو زياد حفظه الله يحدِّثنا باستغراب عن كثرة النازلات العاريات في الفندق الذي نحن فيه، وملامح الإنكار ظاهرة في وجهه، ومن بيننا أخ من إحدى الدول العربية، مقيم في ماليزيا لتحضير الدكتوراه في إحدى الجامعات هناك، وكان صاحب السنة، نحسبه كذلك، نسأل الله له الثبات، فردَّ على الأخ بحسرةٍ؛ قال بهذه العبارة: أما نحن يا إخوتي فإن إحساس الإنكار في قلوبنا قد مات من كثرة المخالطة
فتذكَّرت قول الله سبحانه: ﴿ فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ ﴾ [النساء: 140]، قال القرطبي رحمه الله: دلَّت الآية على وجوب اجتناب أصحاب المعاصي إذا ظهر منهم منكر [3]، وقال محمد رشيد رضا: نزلت هذه الآية في المشركين، وكان بعض المسلمين يجلسون معهم ولا يستطيعون الإنكار عليهم؛ لضعفهم، فأمروا بالإعراض عنهم، وعدم الجلوس إليهم [4]
وقال السعدي: "يدخل فيه حضور مجالس المعاصي والفسوق التي يستهان فيها بأوامر الله ونواهيه، وتقتحم حدوده التي حدَّها لعباده" [5]
ولذلك كان من هدي سلفنا الصالح مجانبة أهل الأهواء وعدم مجالستهم حرصًا على سلامة القلوب،ففي سنن الدارمي عن أسماء بن عبيد قال: "دخل رجلان من أصحاب الأهواء على ابن سيرين، فقالا: يا أبا بكر: نُحدِّثك بحديث؟ قال: لا، قالا: فنقرأ عليك آية من كتاب الله؟ قال: لا، لتقومان عني أو لأقومنَّ، قال: فخرجا، فقال بعض القوم: يا أبا بكر، وما كان عليك أن يقرآ عليك آية من كتاب الله تعالى؟! قال: إني خشيت أن يقرآ عليَّ آيةً فيُحرِّفانها فيقرُّ ذلك في قلبي" [6]
وتذكَّرتُ مقولة: كثرة المِساس تُذهب الإحساس
[1] ضمن الحديث الذي رواه الإمام مسلم في صحيحه (1/ 69)، رقم: 49
[2] رواه الإمام مسلم أيضًا، ينظر: المصدر السابق (1/ 128)، رقم: 144
[3] ينظر: الجامع لأحكام القرآن؛ للقرطبي (5/ 418)
[4] ينظر: تفسير المنار؛ لمحمد رشيد رضا (5/ 377)
[5] تيسير الكريم الرحمن في تفسير كلام المنان؛ للسعدي (ص 210)
[6] سنن الدارمي (1/ 389)، رقم: 411، وقال محققِّه: إسناده صحيح